الفتنة في القرآن الكريم وتحذير الله منها
تُعد الفتنة من أخطر الظواهر التي حذر منها القرآن الكريم في مواضع متعددة، لما لها من أثر بالغ في إفساد العقائد، وتمزيق الصفوف، وتزلزل الإيمان، وإشعال الحروب والصراعات بين الناس. والفتنة في المفهوم القرآني ليست مجرد ابتلاء عابر، بل هي اختبار إلهي يهدف إلى تمحيص المؤمنين، وتمييز الصادق من الكاذب، والصالح من الطالح. وقد حذر الله تعالى عباده منها تحذيرًا بالغًا، لما تحمله من نتائج قد تجرُّ إلى الكفر والردة، والوقوع في الظلم، وإشاعة الفوضى، وتدمير المجتمعات.
إنّ تتبع آيات الفتنة في القرآن الكريم يُظهر مدى تنوع استعمالها ودقتها في توصيف الحالة الإيمانية والاجتماعية والسياسية للأمة. وقد جاء الحديث عنها في أكثر من سياق، منها ما هو متعلق بالامتحان والبلاء، ومنها ما يتعلق بالإضلال عن السبيل، ومنها ما يُحذر من فتنة المال والولد، ومنها ما يرتبط بفتنة الكفار للمؤمنين وتعذيبهم وصدهم عن دين الله.
مفهوم الفتنة في اللغة والاصطلاح
في اللغة العربية، تُشتق كلمة “الفتنة” من الجذر “فَتَنَ”، ويُقال: فَتَنتُ الذهبَ في النار إذا أذبته لتمييز الخبيث من الطيب، ومنه قيل للبلاء: فتنة، لأنه يُظهر حال الإنسان على حقيقته. والفتنة قد تدل على الإغراء والابتلاء والاضطراب.
أما في الاصطلاح الشرعي، فالفتنة تعني كل ما يُسبب انحرافًا في العقيدة أو فسادًا في السلوك أو انحلالًا في القيم. وقد تستخدم للدلالة على البلاء الذي يميز المؤمن من المنافق، كما في قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2].
صور الفتنة في القرآن الكريم
لقد تناول القرآن الكريم مفهوم الفتنة بصور متعددة، وفيما يلي أبرز صورها:
1. الفتنة كابتلاء واختبار من الله
جعل الله سبحانه الفتنة وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق، والجازم من المتردد، قال تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].
وقال أيضًا: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154].
2. الفتنة كعقوبة وبلاء نتيجة الانحراف
قد تأتي الفتنة في صورة بلاء شديد يصيب الناس بسبب مخالفتهم أمر الله، كالعذاب والدمار، قال تعالى:
﴿فَذُوقُوا الْفِتْنَةَ إِنَّا قَدْ فَتَنَّا الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الذاريات: 14].
3. فتنة الكفار للمؤمنين
من أبرز صور الفتنة ما يقوم به الكفار من تعذيب للمؤمنين، ومنعهم من التزامهم بالدين الحق، كما حدث في بداية الدعوة الإسلامية، حيث واجه المسلمون الأوائل صنوفًا من الأذى والابتلاء، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10].
4. الفتنة بالمال والأولاد
من الفتن التي قد تلهي الإنسان عن دينه ودنياه: فتنة المال والولد، حيث قال الله تعالى:
﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن: 15].
وفي آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [المنافقون: 9].
5. الفتنة بالدنيا وزينتها
قال تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28].
فحب الدنيا والتعلق بها يُعد من الفتن التي قد تؤدي إلى الغفلة والانحراف، وهي من أعظم ما يصرف القلب عن ذكر الله ويوقع الإنسان في المعاصي والمهالك.
6. الفتنة في القتال والاضطراب السياسي
ورد التحذير الشديد من الفتنة في سياق القتال والاضطرابات، كما في قوله تعالى:
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 191].
وفي ذلك بيان أن الفتنة التي يثيرها الكفار، من صد عن الدين واضطهاد للمسلمين، أخطر وأشد من القتل المادي.
التحذير من الفتنة وسبل الوقاية منها
لقد جاء في القرآن الكريم تحذير واضح ومباشر من الفتنة، لما لها من أثر كبير في هدم العقائد وتدمير المجتمعات. ومن أبرز هذه التحذيرات:
-
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25].
أي أن الفتنة إذا وقعت لا تقتصر أضرارها على الظالمين فقط، بل تتعدى لتشمل المجتمع كله. -
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [البروج: 10].
وهو وعيد لمن تسبب في فتنة المؤمنين، سواء بالعذاب أو التضليل أو الفساد أو الحرب النفسية.
وللوقاية من الفتنة، أوصى القرآن بعدد من المبادئ، أبرزها:
| الوسيلة | الشرح |
|---|---|
| التمسك بالقرآن والسنة | النجاة من الفتنة لا تكون إلا باتباع الكتاب والسنة، والرجوع إلى الله. |
| تقوى الله | فهي الحصن الحصين من الفتن بأنواعها. قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]. |
| لزوم جماعة المسلمين | فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب، والشيطان مع الفرد وهو من الاثنين أبعد. |
| كثرة الدعاء | كما كان النبي ﷺ يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن”. |
| الزهد في الدنيا | فإنها سبب كثير من الفتن، والرضا بما قسم الله للعبد يجنّبه فتنة الطمع والجشع. |
| معرفة الفتن قبل وقوعها | والتمسك بالحكمة، وعدم التسرع في إصدار الأحكام أو المشاركة في الفتن دون علم أو بصيرة. |
الفتنة في سياق التاريخ القرآني
قدّم القرآن الكريم عبرًا من قصص الأمم السابقة الذين أصابتهم الفتن، فهلكوا بسببها. ففي قصة موسى عليه السلام نجد فتنة السامري الذي أغوى بني إسرائيل بعبادة العجل. كما في قصة أصحاب الأخدود بيان لعاقبة من يفتن المؤمنين عن دينهم، حيث أن الله تعالى وصف حالهم بالعذاب الشديد.
كما أن الفتنة الكبرى التي حدثت بعد وفاة النبي ﷺ، وما جرى بين الصحابة، كانت من الابتلاءات العظيمة التي حذّر منها القرآن بلسان الإشارة والتنبيه، وبيّن خطر الانقسام.
الفتنة في آخر الزمان
من المظاهر التي وردت في النصوص الشرعية، أن الفتن تتكاثر في آخر الزمان، وتصبح كقطع الليل المظلم، يضيع فيها الحق من الباطل. وقد أشار النبي ﷺ إلى ذلك في أحاديث متعددة، ويدعمها فهم بعض الآيات التي تتحدث عن الابتلاءات العامة، كقوله تعالى:
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [المدثر: 11]، فهذه الآية تشير إلى اختبار الإنسان حتى في أعماق نفسه.
خاتمة تحليلية
الفتنة في القرآن الكريم ليست مجرد كلمة تحمل طابعًا لغويًا عابرًا، بل هي مصطلح مركزي يجمع في دلالته بين الاختبار، والعقوبة، والابتلاء، والدعوة لل
